مقال الشهر 

دروب الحج
بقلم أ. د. سعد بن عبد العزيز الراشد

تعد دروب الحج إلى الحرمين الشريفين من أعظم وأهم جسور التواصل الديني والثقافي والتجاري والاجتماعي، بين شعوب الأقاليم والأمم التي وصلها الإسلام. مكة المكرمة والكعبة الشريفة- أول بيت – قبلة المسلمين، وإليها يحجون ويعتمرون، والمدينة المنورة وجهة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والعاصمة الأولى للدولة الإسلامية. كان التوجيه الرباني لسيدنا ابراهيم عليه السلام بإعادة بناء قواعد البيت الحرام، وإقامة مناسك الحج على التوحيد والعقيدة الصافية، فأصبحت مكة بذلك مركزاً دينياً وتجارياً مهماً، وازدادت أهميتها قبل الإسلام ولعدة قرون بسبب ازدهار تجارة قريش، ورحلة الشتاء والصيف المذكورة في القرآن الكريم. تطورت طرق القوافل، وازدهرت المدن والقرى الواقعة على مسار دروب التجارة داخل جزيرة العرب، وامتدت إلى الأقطار خارجها، وتعددت أسواق العرب. وجاء الإسلام الذي بعث به نبينا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، متمماً للرسالات السماوية، فكانت حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، فبلغ عدد من حج مع النبي ما يزيد على مائة ألف من المهاجرين والأنصاري ومن قبائل العرب، ما بين رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وحدد الرسول صلى الله عليه وسلم الأصول الشرعية للحج، وأحكام المناسك، والمواقيت، والوصايا العامة للمسلمين كافة.

قال تعالى: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) ]البقرة:27-28[.

ويقول تعالى: (وَلِلهِ عَلَى الناسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].

وبظهور الاسلام شهدت الجزيرة العربية نهضة تنموية في تطوير طرق الحج والتجارة ابتداءً من عصر صدر الاسلام والخلافة الراشدة، ومع انتشار الاسلام في العراق والشام وفارس، ومصر وإفريقيا وأواسط آسيا والأندلس ارتبطت الحواضر الاسلامية بعضها ببعض بشبكة من الطرق والدروب البرية، وقامت عليها محطات وقرى ومراكز يستريح فيها المسافرون للحج والعمرة والتجارة، وتطور النشاط الإداري، والسياسي، والعسكري، في عهد الخلافات الاسلامية المتعاقبة، والولايات والدويلات والأسر الحاكمة في مختلف الأقطار التي دخلها الاسلام.

وحضيت دروب الحج-خاصة- بالاهتمام في عصر الخلافة الراشدة وعهد الدولة الأموية والعباسية، والأيوبية والمماليك والدولة العثمانية، ولم يقتصر الاهتمام بدروب الحج على الخلفاء والسلاطين، بل شارك في الأجر والثواب الأمراء والوزراء والأعيان والتجار والنساء ومن علية القوم وعامتهم، فكانت السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد- من أشهر سيدات البلاط العباسي في أعمالها الخيرية، وخاصة عنايتها بطريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة، وأعمالها المشهورة في تزويد سكان مكة بالمياه العذبة عبر حفر القنوات والعيون الجارية، وشواهد آثارها حاضرة إلى اليوم.

ولأهمية دروب الحج فقد تعددت من أجلها المصادر المرتبطة بالنسك، والشعائر، والمواقيت والأهلة، وأمن الحرمين، وعمارة طرق الحج، وإدارتها. ويأتي في مقدمة المصادر القرآن الكريم، والتفسير، ومصادرالحديث النبوي الشريف، والمصادر الفقهية، ومؤلفات المؤرخين المسلمين، وكتب المناسك، وكتب المسالك والممالك والبلدان والدروب، وكتابات الرحالة المسلمين خلال أسفارهم للحج والاكتشاف. وتأتي الدراسات المعاصرة لدروب الحج التي اعتمدت على جملة المصادر السابقة ثم بالمشاهدة والتطبيق الميداني للوقوف على معالم الدروب من آثار المحطات والمنازل القديمة والمنشئات المائية من آبار وقنوات وعيون وبرك وسدود وشواهد أثرية أخرى ومنها أعلام الطرق والبريد والأميال التي تحدد المسافات، والأحجار الشاهدية والكتابات والنقوش التي دونها المسافرون والمقيمون على امتداد الدروب والتي تميزت بصفة خاصة طرق الحج داخل النطاق الجغرافي للجزيرة العربية. ولم يقتصر الإهتمام بدروب الحج البرية فحسب، بل امتد الاهتمام بطرق الملاحة البحرية والنهرية عبر العصور الإسلامية لنقل الحجاج والتجار عبر موانئ الأندلس وحوض البحر المتوسط، والبحر الأحمر، وبحر العرب والخليج العربي. وقد برع البحارة العرب في تطوير السفن ذات الأشرعة التي كانت تمخر عباب البحار والأنهار محملة بالبشر والسلع على حدٍ سواء. وقد ترك لنا الرحالة الأوائل ومنهم ابن جبير وابن بطوطة معلومات هامة جداً عن رحلة الحج البحرية والموانئ ولعل أشهرها ميناء جدة بوابة الحرمين.

وتحتفظ أرض المملكة العربية السعودية بتراث حضاري وثقافي لدروب الحج الرئيسية المشهورة في التاريخ الإسلامي وهي: طريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة المعروف بـــ]درب زبيدة[، وطريق الحج البصري، وطريق الحج الشامي، وطريق الحج المصري، وطريق الحج اليمني الساحلي والداخلي، وطريق الحج العماني. وهذه الطرق وفروعها نالت نصيباً وافراً من ذكرها في المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية على مر العصور، وخاصةً في عهد الخلافة الأموية والعباسية. ولأهمية هذه الطرق فقد اهتمت بها المملكة العربية السعودية من فترة مبكرة، وتتولى اليوم وزارة الثقافة متابعة الجهود السابقة في المحافظة على آثار ومعالم تلك الطرق وتوثيقها، وتطويرها وتسهيل الوصول إليها للباحثين والدارسين والسياحة الثقافية. ومن الخطوات المهمة التي تعمل عليها الوزارة تسجيل دروب الحج على قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو وفي مقدمتها طريق الحج العراقي(درب زبيدة).

لقد ظلت دروب الحج مستخدمة لعدة قرون، حيث كان الحجاج والتجار يأتون على ظهور الجمال والدواب، لكن الحال تغير مع الثورة الصناعية والمخترعات العديدة ومنها السيارات، والطائرات والسفن ذات الحجم الكبير، وقد واكبت المملكة العربية السعودية هذه الطفرة منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز، حيث تم التركيز على مشاريع البنية التحتية من طرق برية، ومطارات عصرية، واساطيل جوية متنوعة، وموانئ بحرية، وصحب تلك الطفرة إنشاء أول مشروع سكة الحديد الذي ربط ميناء تنورة بالرياض العاصمة، ونشهد اليوم نقلة عالمية في مجال بناء سكك الحديد، فنشأ مشروع قطار الحرمين الذي ربط بين جدة ومكة والمدينة المنورة، حيث يسر على الحجاج والمعتمرين والزوار وأبناء المملكة التنقل بيسر وسهولة. والمشهد اليوم يختلف تماماً عن الماضي فقد حلت السيارات والقطارات والسفن محل الجمال والدواب، لكن تبقى دروب الحج البرية بآثارها المعمارية ومنشئاتية المالية باقية على امتداد الرقعة الجغرافية للمملكة، وتشكل مصدراً للعلوم والمعرفة والسياحة الثقافية، ومورداً للاقتصاد.